من المقرر أن يلقي الرئيس أبو مازن، يوم الخميس المقبل، خطابًا جديدًا أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، سيشرح فيه الرواية الفلسطينيّة للصراع الجاري منذ أكثر من مائة عام. سيكون الخطاب هذا العام باهتًا، لأنه يأتي بعد إضاعة عام كامل من الانتظار واستمرار السعي لاستئناف المفاوضات العبثيّة، لأن الخطاب التاريخي، الذي ألقي في العام الماضي، بعث الأمل في نفوس الفلسطينيين، لكنّه جاء نهاية وليس كما كان مفترضًا أن يكون بداية لشق مسار جديد، بعيدًا عن نفق المفاوضات الثنائيّة العبثي المسدود.
لقد سبق خطاب العام الماضي استعدادات ضخمة، سياسيّة وجماهيريّة وإعلاميّة وقانونيّة، كان عنوانها "استحقاق أيلول"، وسط زخم من اعتراف الدول بالدولة الفلسطينيّة، بينما كان "كرسي الدولة" يطوف العالم كله؛ مؤكدًا على الحق الفلسطيني في تقرير المصير.
أما في هذا العام، فستذهب القيادة الفلسطينيّة إلى الأمم المتحدة مترددة، قدمًا إلى الأمام والأخرى إلى الوراء، فهي تعاني من آثار الانقسام، والأزمة الاقتصادية، وفقدان الاتجاه، وآثار "الربيع العربي"، وحائرة بين إلغاء أوسلو، وحل السلطة، واستقالة الرئيس، والدولة الواحدة، وإجراء انتخابات عامة، والعودة إلى المفاوضات، وتتحدث عن التوجه إلى الأمم المتحدة، وكأن الأمر يطرح الآن للمرة الأولى، لذلك بدلًا من الذهاب وفي يدها مشروع قرار لعرضه للتصويت فورًا، تتحدث عن الشروع في صياغة مشروع القرار بعد الخطاب، وعرضه على الدول والكتل الإقليميّة والدوليّة خلال أسابيع؛ ليعرض بعد ذلك للتصويت عليه بعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة القادمة حتى لا تصطدم مع الرئيس الأميركي في آخر عهده.
ليس مقبولًا على الإطلاق عدم صياغة مشروع القرار وتأجيل طلب التصويت عليه، بالرغم من مرور عام على السقف الزمني لاستحقاق أيلول، ومرور أعوام على بداية طرح مسألة التدويل التي ابتدأت في العام 2009، خصوصًا حين جاءت حكومة نتنياهو إلى سدة الحكم، واتضح للقاصي والداني، للمتفائل والمتشائم، عدم وجود أفق لحل سياسي مرضٍ أو عادل أو متوازن، على المدى المنظور على الأقل، هذا الموقف يمكن تفسيره، لأن البيت الفلسطيني منقسم على نفسه، وفي وضع سيء للغاية، ولم يتم استغلال الفترة الماضية للاستعداد لمواجهة التداعيات المحتملة لخطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خصوصًا لجهة تنفيذ التهديدات الأميركية والإسرائيلية.
على القيادة الفلسطينيّة حتى تستعيد مصداقيتها التي فقدتها، من خلال تجنب المواجهة في العام الماضي بعدم تفعيل الطلب الذي قدمته إلى مجلس الأمن للحصول على العضويّة الكاملة، بحجة عدم وجود الأصوات التسعة المطلوبة لعرضه للتصويت، ومن خلال عدم الانتقال فورًا إلى الجمعيّة العامة للحصول على العضويّة المراقبة، بالرغم من وجود مطالبة فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة بذلك، سواء من دون تقديم الطلب إلى مجلس الأمن أو بالتزامن معه أو بعده؛ أن تفسر، أو أن تعترف بالخطأ الكبير الذي ارتكبته، وتتحمل المسؤوليّة عنه أمام شعبها والعالم كله.
إذا لم تعترف القيادة بالخطأ، فالخشية من أن الأسباب التي أدت إلى إضاعة عام مضى في البحث عن نجاح الجهود المبذولة لاستئناف المفاوضات العقيمة، وهي تجنب المواجهة مع الإدارة الأميركيّة والحكومة الإسرائيليّة، وربما بعض الدول الأوروبيّة؛ لا تزال قائمة، ويمكن أن تؤدي إلى:
إما إلى تأجيل المواجهة مرة أخرى، إلى ما بعد إعطاء فرصة جديدة للرئيس باراك أوباما، إذا فاز بفترة رئاسيّة ثانية، بحجة عدم الاصطدام معه في بداية فترته الثانية، وإضاعة فرصة بحجة أنه سيكون فيها متحررًا من الضغوط والقيود من إسرائيل ومجموعات الضغط المؤيدة لها أثناء فترة رئاسته الأولى.
أو عدم الاصطدام بالرئيس الجديد ميت رومني في فترة رئاسته الأولى، إن فاز، خصوصًا بعد مضيه بعيدًا أثناء حملته الانتخابيّة في دعم إسرائيل، لدرجة إطلاقة تصريحاتٍ عنصريّةً ومعاديّةً للفلسطينيين.
أو المضي قدمًا نحو التوصيت على مشروع القرار، مهما تكن نتيجة الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، دون تسليحه بمضمون إستراتيجي، حيث يبدو وكأنه محاولة لتحسين فرص استئناف المفاوضات. ويؤكد ذلك تصريحات الرئيس "أبو مازن" وصائب عريقات، وغيرهما، بأن حصول فلسطين على العضويّة المراقبة يساعد على السلام، ويفتح طريق العودة لاستئناف المفاوضات، التي ستكون مفاوضات بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال.
عن أي سلام يجري الحديث! وما الذي يدعو للعودة إلى مفاوضات أدت إلى كارثة، ويمكن أن تؤدي إلى كارثة أكبر، إذا استؤنفت من دون تغيير الظروف والمبادئ والمرجعيّة والإطار والأطراف التي تجري وتشارك فيها؟ وعن أي مواجهة يجري الحديث، والوضع الفلسطيني لا يسرّ صديقًا؟
إن التدويل إذا نُظِر إليه بوصفه مجرد محاولة فلسطينيّة جديدة لإثبات الجدارة، وحسن السلوك والنوايا، وإنجاح الجهود لاستئناف المفاوضات؛ فسيؤدي في النهاية إلى تقزيم القضيّة الفلسطينيّة، ويساعد على استكمال تهميشها تمهيدًا لتصفيتها.
فالتدويل ضمن السياق المذكور، سيؤدي إلى صياغة مشرورع قرار ضعيف يحاول أرضاء أميركا والدول الأوروبيّة الكبرى، خصوصًا ألمانيا؛ للحصول على تأييدها أو تحييدها، وذلك من خلال التعهد بأنه الحد الأقصى، وإعادة إنتاج كل التنازلات التي حدثت سابقًا، وإيراد كل العبارات والمضامين التي حملتها "مسيرة السلام" منذ انطلاقها في مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 وحتى الآن.
يمكن أن نرى في مشروع القرار أحاديث عن حل قضيّة اللاجئين على أساس "معايير كلينتون"، أو "حل متفق عليه"، وإعادة إقرار "مبدأ تبادل الأراضي الذي يقسم الضفة الغربية والقدس الشرقية"، وعبارات من نوع "دولة فلسطينيّة مترابطة وقابلة للحياة منزوعة السلاح"، و"تحافظ على أمن وسلامة إسرائيل وتنبذ الإرهاب"، و"تمتنع عن إقامة تحالفات معاديّة لإسرائيل"، و"تلتزم بأفضل العلاقات الطبيعيّة معها".
إذا حصل ذلك، لا سمح الله، تكون الطّامة الكبرى، ويصبح بعدها عدم التوجه للأمم المتحدة أفضل من هكذا توجه.
أهميّة التدويل أنه يجب أن ينطلق من قناعة عميقة باستحالة التوصل إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلة عاصمتها القدس، مع أو من دون حل القضيّة الفلسطينيّة حلًا عادلًا على أساس القرار 194؛ بالعودة إلى طريق المفاوضات الثنائيّة برعايّة انفراديّة أميركيّة، وفي ظل قيام اللجنة الرباعيّة بدور "شاهد الزور"، بعيدًا عن القانون الدولي وقرارت الأمم المتحدة، وعن الدور الفاعل للمؤسسة الدوليّة والأطراف المؤثرة والمعنيّة بما يجري في المنطقة.
الحصول على العضويّة الكاملة مهم جدًا، والحصول على العضويّة المراقبة مهم أيضًا، ولكنه لن يغير الموقف للمفاوض الفلسطيني، لأن الأمر الحاسم هو ما يجري على الأرض، وهو يبعد حل الدولتين ولا يقرّب حل الدولة الواحدة.
فالأرض الفلسطينيّة المحتلة عام 1967 كانت ولا تزال هي أرض محتلة وفقًا للشرعيّة الدوليّة، وهذا لم يؤد إلى تفاوض مثمر، أو إلى تغيير في الموقف الإسرائيلي. وكذلك، فإن منظمة التحرير حصلت على العضويّة المراقبة منذ العام 1974، ولم يغير هذا الأمرُ الواقعَ على الأرض.
تأسيسًا على ما سبق، لا يمكن أن يؤدي التدويل إلى تغيير الموقف جذريًا، إلا إذا جاء ضمن تصور متكامل وإستراتيجيّة جديدة. إستراتيجيّة جديدة تكرس المكاسب السابقة ومكانة منظمة التحرير، وتؤمن بضرورة تغيير موازين القوى على الأرض، بحيث يصبح الاحتلال مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها؛ عندها يمكن إنهاء الاحتلال الذي من دون إنهائه لا يمكن إقامة دولة مستقلة حقًا، حتى لو بنينا مؤسسات دولة مثاليّة وحصلت على شهادة العالم كله بالجهوزيّة الفلسطينيّة لإقامة الدولة.
يجب أن ترتكز الإستراتيجيّة التي تريد التغيير أساسًا إلى تدويل القضيّة الفلسطينيّة بمختلف أبعادها، وتجميع جميع الموارد والثروات وأوراق الضغط والقوة الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، وهذا لا يكون إلى بإعادة القضيّة إلى جذورها، بوصفها قضيّة شعب شرّد، وواقع تحت الاحتلال، ويعاني بجميع أجزائه من كل أشكال الاستعمار والاضطهاد والعنصريّة. وهذا يقتضي إحياء القضيّة الفلسطينيّة والمشروع الوطني والمؤسسة الجامعة والقيادة الواحدة على أساس الحقوق الطبيعيّة والتاريخيّة والقانونيّة، وبما يضمن وحدة القضيّة والشعب والأرض، وهذا يتطلب أساسًا التركيز على خطاب الحقوق: حق تقرير المصير؛ وحق والعودة؛ وإنهاء الاحتلال؛ والحقوق المدنية والمعيشيّة لشعبنا داخل إسرائيل والشتات.
إن مثل هذا التفكير الإستراتيجي أصبح متطلبًا وطنيًا، لا مناص منه بعد أن قضت إسرائيل على حل الدولة الفلسطينيّة على حدود 1967، وعلى اتفاق أوسلو الذي تنصلت منه، مع أنها تريد الإبقاء على الالتزامات الفلسطينيّة فيه.
ليس مطلوبًا من الفلسطينيين الإعلان رسميًا عن إلغاء اتفاق أوسلو ردًا على ذلك؛ حتى لا يتحلموا المسؤوليّة عن جريمة ارتكبتها إسرائيل، ولكن عليهم إدراك أنه الجذر الأساسي لما وصلوا إليه، ومن دون تجاوزه عمليًا، خطوة خطوة وصولًا إلى التخلص منه نهائيًا؛ لا يوجد حل عادل أو متوازن أو مرضٍ، بل سيؤدي استمرار السياسة الانتظارية إلى المزيد من الضياع للفلسطينيين وقضيتهم، وصولًا إلى تصفيتها نهائيًا.